مقالات

تاج السر أحمد سليمان… حين يسقط الضوء ولا ينطفئ أثره

فايز الزاكي حسن مراسل وكالة الأنباء الصينية “شينخوا” يكتب…

في زمن صار فيه الخبر أثمن من الحياة، سقط زميلنا وصديقنا تاج السر أحمد سليمان، مدير مكتب سونا بالفاشر، شهيد الكلمة والواجب. لكن ملامحه المبتسمة لا تزال حيّة في الذاكرة، كما لو أنه ما يزال واقفًا عند مدخل مكتب وكالة السودان للأنباء في الفاشر، يستقبل الصحفيين والقادمين من كل مدن السودان، بوجه منفتح ونبرة مطمئنة، وكأن المدينة — مهما اشتعلت — لا تفقد حقها في الحياة.

تعرفتُ عليه في عام 2004 حين تم انتدابي لمكتب سونا في الفاشر لتغطية أحداث دارفور التي كانت في ذروة اشتعالها. لم تكن المهمة سهلة، لكن الرجل جعلها ممكنة. لم يكن مجرد صحفي؛ كان روحًا تمشي على الأرض. فتح بيته ومكتبه وقلبه لكل الوفود الصحفية التي قدمت آنذاك. كان يُصرّ أن الضيوف لا يغادرون قبل أن يتذوقوا شايه المميز، ويسمعوا حكاياته عن الفاشر التي يعرفها حجرًا حجرًا، وقبيلة قبيلة، وألمًا ألمًا.

كان ملتزمًا بمهنته بقدر التزامه بالإنسان في كل ما يكتب. لم يكن يطارد السبق الصحفي بقدر ما كان يطارد الحقيقة. كان يؤمن أن الصحافة ليست مهنة، بل مسؤولية أخلاقية وواجبًا إنسانيًا: أن تكون صوت من لا صوت له، وأن تكتب لا لأن الخبر مطلوب، بل لأن الوجع يستحق أن يُروى.

مع بداية حصار الفاشر في مايو 2024، ظل الاتصال بيننا مستمرًا. كنت ألحّ عليه أن يغادر المدينة، أن يحفظ حياته، لكنه كان يرى أن البقاء هو شكل آخر من أشكال المقاومة. كان يقول لي: «إذا خرجنا جميعًا، من سيبقى ليحكي للعالم ما يجري هنا؟ الخبر أحيانًا ليس مهنة… الخبر هو روح المدينة.»
قلت له: الحياة أولًا يا تاج السر.
فأجابني بصوته الهادئ:
«وما قيمة الحياة إن صمتنا؟»

ثم شيئًا فشيئًا بدأت الرسائل تقلّ. وحين دخلت قوات الدعم السريع إلى الفاشر، انقطع الاتصال نهائيًا. كنت أرسل رسائلي كل يوم، أتفقد صوته كما يتفقد الناس أحباءهم في ساحات القتال. لا رد… لا إشارة… لا كلمة. حتى جاء اليوم الذي وصلت فيه الأخبار، ليس عن تغطيته، ولا عن قصته… بل عن استشهاده.

لم يُقتل تاج السر لأنه كان يحمل سلاحًا، بل لأنه كان يحمل قلمًا. لم يُستهدف لأنه يشكل خطرًا عسكريًا، بل لأنه يشكل خطرًا على الصمت.
اغتياله ليس مجرد حادث فردي، بل هو جرح أثخن في جسد الصحافة السودانية، وندبة جديدة على وجه الحقيقة. فحين يُقتل الصحفي، لا يسقط اسمه فقط، بل يسقط معه جزء من قدرة الناس على رؤية العالم وفهمه.

اليوم، تمر أمامي مشاهد كثيرة:
وجهه الهادئ وهو يشرح خريطة الصراع للزملاء الجدد.
صوته في الهاتف وهو يقول: «لسه صامدين».
ابتسامته التي كانت تشعرك بأن الليل — مهما طال — لا بد أن يولد منه صباح.

لقد رحل تاج السر، لكن رائحة الشاي في بيته ستبقى، وصدى خطوات الصحفيين في ممرات مكتبه سيظل عالقًا، وملفاته التي لم تكتمل ستبقى شهادة على أن الصحافة ليست أوراقًا تُكتب، بل أرواحًا تُقدَّم.

نعم… يمكن أن يُغتال الصحفي، لكنهم لا يستطيعون اغتيال الحقيقة.
وربما لهذا رحل تاج السر مبتسمًا… لأنه يعلم أن ما كتبه، وما شهده، وما صدّقه، لن يُدفن معه.

إن من يشبهون تاج السر لا يموتون وإن قُتلوا؛ يبقون في ذاكرة المدن، في شوارع الفاشر التي يعرف كل تفاصيلها، في تسجيلاته الصوتية، في الصور التي كان يلتقطها وهو يخفي دمعة، وفي القصص التي لم يمهله الوقت ليكتبها.

اغتيال تاج السر ليس مجرد حادثة، بل جرح مفتوح في قلب الصحافة السودانية، واتهام صريح لعالمٍ ما زال يقتل من يحاول أن يشهد بصدق. فالرصاص الذي استهدفه لم يكن يستهدف جسده وحده، بل كان يستهدف الحق في أن تُروى الحقيقة، وأن يُسمع صوت الإنسان وسط ضجيج السلاح.

اليوم، حين أمرّ على ذكريات جمعتني به، لا أسمع ضحكته فقط، بل أسمع صوت مدينة كاملة كانت تنطق من خلاله.
أسمع صوت الفاشر وهي تقول:
«لا أحد يرى وجعي… إلا من كتبه بدمه.»

سلامٌ عليه يوم اختار أن يبقى، ويوم وقف وحيدًا أمام الخوف، ويوم رحل دون أن يخذل الكلمة.
وسلامٌ عليه يوم حمل قلمه، ويوم قاوم بصوته، ويوم رحل دون أن يتنازل عن واجبه.
وسلامٌ على كل من يكتب وهو يعلم أن الكلمة أحيانًا تكون آخر ما يُقال… لكنها قد تكون أول ما يبقى…
وسلامٌ على كل من يشبهه، ممن يكتبون وهم يعلمون أن بعض الكلمات لا تُقال بالحبر، بل تُكتب بالقلب… وأحيانًا بالدم…
وداعًا يا صديقي…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى