
متابعات : ريام نيوز
لم تكن مدينةُ النهود رقعةً على خريطة، بل كانت جوهراً نابضاً يسكن صدور أهلها؛ وكانت البيوت فيها أشبه بحضن أمٍّ تُهيّئ أبناءها للطمأنينة كلما ضاقت الدنيا. هواؤها كان يُهدهد القلب، وطرقاتها تمتدّ كأذرع أخوة تربّوا في كنف واحد، وأحياؤها تتشابك كما تتشابك الحكايات التي تصنع أسطورة.
في تلك الأيام التي يشبه صباحها ابتسامة طفلٍ خرج تواً من ضوء، كانت النهود تُقيم أفراحها اليومية بلا صخب؛ ينهض الناس على دفءٍ كأن الأرض أمٌّ ثانية، وتتعانق أصوات الجيران حتى يُخيَّل إليك أن المدينة بيتٌ واحدٌ بأبواب كثيرة.
لم نكن نسأل من أين جاء أهلنا، ولا من أي قبيلة أو جهة انحدروا، كنا نعرف – فقط – أننا ننتمي لبعضنا
كانت أبوابنا مشرعة كما تُشرّع الحقيقة جرحها للهواء. والمدينة كلّها تعرف كيف تحزن كما تعرف كيف تفرح. فإذا صدح المنادي: كل من عليها فان، وقفنا جميعاً كأن الموت مسّ كل قلبٍ بنصيب. كنا نتقاطر إلى بيت العزاء من الجهات الأربع، لا لمواساة ميتٍ وحده، بل لصون ذلك الخيط الرفيع الذي يجعلنا بشراً.
أما يوم الجمعة…
فكان نهراً من ضيافة لا ينضب؛ دعوة تُجرّ أخرى، وكؤوسٌ باردة في العصر، وأبواب تُفتح على أبواب، حتى يغدو الحيّ كلّه وليمة محبة لا تنتهي.
لم يضق أحد بكثرة دعوات الافراح ، ولم يقل أحد إن الضيافة أثقلته؛ كنا نلبي لأن الودّ كان شِرعة المكان… كان الحيّ يطعم الحيّ الآخر بلا منّة، كأنما الكرم قانونٌ لا يُمتحَن، وكأن البخل لم يُخلق بعد، وكأن المدينة كانت أماً تُرضع أبناءها دفئاً لا حليباً.
كانت النهود تنثر علينا نورها… قبل ان تتبدل وتتغير ويسوء حالها ويصبح فيها كل شئ مباح، حتى جاء يومٌ بدأ فيه الضوء نفسه يتلعثم خوفاً من الشروق. يومٌ لم تمطر فيه السماء دموعها، بل اختنقت. يومٌ لم ينطفئ فيه النهار فقط، بل انطفأت فيه روح المدينة كلها…. فسُقِطَتْ وسَقَطَتْ



