الأعمدة ومقالات الرأي
أخر الأخبار

د. ياسر محجوب يكتب آبي أحمد وشاطئ الأطماع المحرّمة

د. ياسر محجوب يكتب آبي أحمد وشاطئ الأطماع المحرّمة

ريام نيوز ١٠ يونيو ٢٠٢٥م
في حديث تلفزيوني امتدّ على أربع حلقات متتابعة، خرج رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بخطاب أشبه بمرافعة جغرافية ــ تاريخية، يصف فيها بلاده بأنها “سجينة الجغرافيا”. كان المشهد أقرب إلى مناجاة مصيرية؛ رجل يقف أمام الخريطة لا ليقرأها، بل ليتحدّاها. قال آبي أحمد إن غياب المنفذ البحري عن بلاده ليس مجرد عثرة لوجستية في طريق التنمية، بل جرح غائر يهدد بقاء الأجيال القادمة. وعلى هذا الأساس، لم يكن حديثه تشخيصًا لواقع، بل كان، على نحو مقلق، تبريرًا مسبقًا لأي فعل قد يُقدم عليه.

من حيث المبدأ، لا يُلام أي زعيم في سعيه لتأمين مصالح بلده، ولا يُحرج أي مسؤول حين يبحث عن منفذ لأمل شعبه. بل إن ذلك هو لبّ الوظيفة السيادية. غير أن المأزق يبدأ حين تُصبح السيادة عائمة، والحقوق مطّاطة، وتُغلف الأطماع بغلاف من الشعر الجغرافي والدعوة إلى “تحطيم القضبان”. فهل يعقل أن تُبنى استراتيجيات الدول على استعارات لغوية؟ وهل تتحول الجغرافيا من علم إلى عذر؟

إن حق إثيوبيا في البحث عن مخرج بحري لا يختلف عليه اثنان، لكنه حقّ مشروط بألا يُمارَس على حساب الآخرين، أو يتم عبر إشعال الفتن في أقاليم الجوار. فحين تتوجه أديس أبابا إلى “أرض الصومال” – الكيان غير المعترف به دوليًا – وتوقّع معها، في فاتحة العام 2024، اتفاقًا يمنحها شريطًا ساحليًا بطول 20 كيلومترًا في منطقة “لوليعاد” على خليج عدن، ليس لبناء ميناء فحسب، بل لإقامة قاعدة بحرية عسكرية، في مقابل تعهد إثيوبيا بالاعتراف الرسمي بانفصال ذلك الكيان عن جمهورية الصومال الفدرالية، فإن الأمر يتجاوز بكثير لغة “المظلومية الجغرافية”، ليدخل منطقة التحايل السياسي على الشرعية الدولية.

ذلك الاتفاق المشؤوم لم يكن سوى شرارة كادت تشعل حريقًا إقليميًا. فقد سارعت مقديشو إلى رفضه بشدة، ووجدت دعمًا عربيًا ودوليًا صريحًا، على رأسه مصر التي رأت في الاتفاق تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي، بينما عبّرت جامعة الدول العربية عن إدانتها، ووقفت منظمات إقليمية كالاتحاد الأفريقي والإيغاد على مسافة قلق من اندلاع صراع مفتوح في منطقة لا تحتمل مزيدًا من التوتر. لقد بدا وكأن إثيوبيا تنسج حبال الجغرافيا لتخنق بها السيادة الصومالية، وتستبدل القانون الدولي بـ”صفقة سياسية” تحت الطاولة.

اللافت في خطاب آبي أحمد أنه لم يكتفِ بتقديم طرحه للرأي العام المحلي، بل تحدث وكأنه يوجّه الرسالة للمجتمع الدولي، مُستشهدًا بتصريحات مبهمة من باريس وأنقرة وواشنطن، اعتبرها أدلة على “تفهم متزايد” للحق الإثيوبي في الوصول إلى البحر. لكن حين نُمعن في فحوى هذه التصريحات، لا نجد اعترافًا صريحًا، بل مجرد عبارات دبلوماسية فضفاضة تُعبّر عن قلق من الأوضاع أو دعوة لتعزيز التعاون. فأي تفهم هذا الذي يُراد له أن يُستخرج من تحت رماد المجاملات الدبلوماسية؟

وليس من المبالغة القول إن الخطاب الإثيوبي أصبح أقرب إلى تسويق أزمة ذاتية بوصفها مأساة كونية، يُفترض بالعالم أن يتفهم نتائجها ويتقبل تبعاتها. والحال أن إثيوبيا ليست وحدها في هذه المعضلة؛ فهناك 49 دولة في العالم بلا منفذ بحري، منها دولتان حبيستان بشكل مضاعف، كليختنشتاين وأوزبكستان، لم نرَ قادتها يبكون على ضفاف الخريطة أو يهددون جيرانهم بالتوسع والابتلاع. بل وجدوا في العقل والحكمة سبلًا للنفاذ الاقتصادي دون أن يُسقطوا خرائط أحد.

ولنعد قليلاً إلى التاريخ القريب: إثيوبيا كانت دولة ساحلية حتى العام 1993، حين اختارت إريتريا، عبر استفتاء شعبي وبموافقة أديس أبابا نفسها، أن تستقل وتحتفظ بساحلها على البحر الأحمر. فكيف يُحمّل الصومال أو جيبوتي أو غيرهما تبعات قرار سياسي سيادي شاركت فيه إثيوبيا بكامل إرادتها؟ بل كيف يُصبح حقًّا مكتسبًا ما هو في الأصل نتيجة طبيعية لخيار سياسي معلوم؟

بلغة ناعمة ومصطلحات استراتيجية، يحاول آبي أحمد أن يُهيئ الرأي العام المحلي والدولي لقبول خطوات غير تقليدية، قد تكون ـــ وفق منطقه ـــ مؤلمة، ولكنها ضرورية لـ”تحطيم السجن الجغرافي”. وهي بلاغة مخاتلة، لأنها تزرع في الوعي العام أن كل خطوة، ولو كانت خرقًا للقانون الدولي، ستكون مبررة لأنها جاءت في سياق كسر القيود.

لكن الحقيقة، أن تحطيم القيود لا يكون بإلقائها على أعناق الجيران. ولا يُبنى المجد الوطني على أنقاض السيادة الإقليمية. وإن كانت إثيوبيا جادة في طموحها البحري، فالعالم مليء بالنماذج التي انتصرت على الجغرافيا بالاقتصاد، وتجاوزت حدودها بالتكامل، لا بالمناورة. فثمة موانئ وممرات ومصالح مشتركة يمكن التفاوض حولها بشفافية ومسؤولية. أما التسلل عبر الأبواب الخلفية للشرعية الدولية، فهو ليس حلًا، بل وصفة لتأجيج النزاعات وتفكيك ما تبقى من السلم الإقليمي.

إن على أديس أبابا أن تدرك أن ثقلها السياسي الحقيقي لا يُقاس بعدد الجنرالات ولا باتساع الطموحات، بل بقدرتها على أن تكون ركيزة للاستقرار، لا مصدرًا للقلق. والقيادة الحكيمة لا تعيد رسم الخرائط، بل تبني الجسور فوقها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى