الاخبار

الرؤية الأمريكية تجاه السودان بين الإصلاح والوصاية: قراءة قانونية ودبلوماسية

الدكتور النذير إبراهيم محمد أبوسيل يكتب…

المستشار القانوني الدولي – مبعوث المحكمة الدولية لتسوية المنازعات إلى السودان
المستشار الاستراتيجي ورئيس ملف السودان للتنمية المستدامة
السفير الفخري لمنظمة UNASDG

أولًا: مقدمة عامة
الرؤية الأمريكية تجاه السودان، كما تتبدى في تصريحات المسؤولين الأمريكيين وآخرهم مستشار الرئيس الأمريكي مسعد بولس، تُطرح تحت شعارات “الإصلاح المؤسسي” و“الحكم المدني”، غير أن قراءة دقيقة في المضمون تُظهر تداخلًا بين الإصلاح كشراكة والإصلاح كوصاية.
لقد أشار بولس في أكثر من مناسبة إلى أنّ “واشنطن لن تسمح بانهيار الدولة السودانية”، وأنها تعمل مع شركائها الإقليميين “لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس حديثة”.
لكن في ذات الوقت، جاءت تصريحاته محمّلة بتلميحات إلى ضرورة “ضبط المؤسسة العسكرية وإبعاد النفوذ الأيديولوجي عنها”، وهو ما يعيد إلى الواجهة إشكالية ازدواج الخطاب الأمريكي بين دعم السيادة الوطنية من جهة، ومحاولة توجيهها من جهة أخرى.
إنّ التعامل مع السودان، كدولة ذات سيادة وعضو فاعل في الأمم المتحدة، يجب أن يقوم على أسس القانون الدولي ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، لا على أساس تشريعات داخلية أمريكية تُسنّ في الكونغرس لتوجيه السياسة الخارجية.
ثانيًا: في الإطار القانوني الدولي
1. مبدأ السيادة الوطنية:
• الجيش السوداني مؤسسة وطنية راسخة قانونًا بموجب الدستور، وهو الجهة الشرعية الوحيدة المخوّلة بالدفاع عن البلاد وحماية أراضيها ووحدتها.
• لا يحق لأي دولة أو جهة خارجية أن تفرض إصلاحات أو تغييرات هيكلية داخل القوات المسلحة إلا عبر اتفاقات رسمية ثنائية أو أممية معترف بها قانونًا.
2. القوانين الأمريكية (H.R.7682 و H.R.1939):
• تُعد قوانين داخلية لا تُلزم السودان من الناحية القانونية الدولية.
• استخدام هذه القوانين كأداة ضغط سياسي يتعارض مع مبدأ المساواة في السيادة بين الدول، الذي نصّت عليه المادة (2) من ميثاق الأمم المتحدة.
3. دمج القوات والمليشيات (DDR):
• عملية الدمج أو التسريح شأن داخلي خالص يخضع لقرارات وطنية تصدرها مؤسسات الدولة الشرعية.
• أي إشراف دولي محتمل لا يُفهم كوصاية، بل كدعم فني أو رقابة مشتركة بناءً على طلب الدولة السودانية.
ثالثًا: في الإطار الدبلوماسي والسياسي
1. الفهم الأمريكي للمشهد السوداني:
• الرؤية الأمريكية الراهنة تتبنى مقاربة أمنية مركّزة على بنية الجيش، بينما تغفل البعد الإنساني والاجتماعي المتفاقم، خاصة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، حيث يعيش المواطنون اليوم أوضاعًا مأساوية من نزوح، وانعدام للأمن، وتدهور للخدمات.
• تجاهل جذور الأزمة الاجتماعية والسياسية يجعل أي “إصلاح عسكري” منفصلًا عن الواقع الوطني.
2. دور الجيش السوداني:
• تُجمع غالبية القوى الوطنية أن القوات المسلحة السودانية هي صمام الأمان لوحدة السودان.
• شرط “إبعاد الإسلاميين” كمعيار إصلاح مؤسسي يحمل طابعًا سياسيًا انتقائيًا لا قانونيًا، ويتناقض مع مبدأ الحياد المهني للمؤسسة العسكرية.
3. مصر والإمارات والولايات المتحدة في المعادلة الإقليمية:
• ما يُثار حول توافق الرباعية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، والإمارات) يجب أن يُقرأ في إطار مصالحها لا بالضرورة في مصلحة السودان.
• السودان يجب أن يتعامل بندّية وسيادة متكاملة مع جميع الأطراف، انطلاقًا من مبدأ المصالح المشتركة لا التبعية السياسية.
4. تصريحات مستشار الرئيس الأمريكي مسعد بولس:
• أكّد بولس مؤخرًا أن “الولايات المتحدة تراقب سلوك الأطراف السودانية بدقة”، وأن “الجيش السوداني يجب أن يكون محور الإصلاح”.
• لكنه أشار أيضًا إلى أن “الإصلاح لا يمكن أن يتم دون التغيير السياسي الجذري”، ما يُفهم ضمنًا كمطالبة بتعديل التوازن الداخلي في السلطة السودانية.
• هذا الطرح يثير تساؤلًا مشروعًا: هل هو دعم للاستقرار، أم هندسة سياسية جديدة قد تُفرغ مفهوم السيادة من مضمونه؟
رابعًا: قراءة في فلسفة “الإصلاح لا التفكيك”
الفلسفة الأمريكية المعلنة “إصلاح لا تفكيك” تحمل بعدًا إيجابيًا في ظاهرها، لكنها تحتاج إلى ضمانات واضحة:
• أن يكون الإصلاح من الداخل وبإرادة سودانية وطنية، لا بفرض خارجي.
• أن لا يتحول الدعم الفني إلى إعادة هندسة سياسية للدولة السودانية.
• أن تكون العدالة الانتقالية شاملة، لا انتقائية، تحاسب الجميع وفق القانون لا الأهواء السياسية.
وفي ظل ما يجري في دارفور وكردفان من مآسٍ إنسانية وجرائم موثقة ضد المدنيين، يجب أن تكون الأولوية لوقف الانتهاكات وتفعيل العدالة الدولية، بدلًا من الانشغال بإعادة رسم هياكل السلطة على الورق.
خامسًا: التوصيات القانونية والدبلوماسية
1. تأكيد استقلال القرار الوطني السوداني في كل ما يتعلق بإصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية.
2. الانفتاح على المجتمع الدولي بشروط السيادة الوطنية والتعاون المتكافئ.
3. رفض الوصاية التشريعية الخارجية أو القوانين التي تتعامل مع السودان كملف إداري تابع.
4. إطلاق حوار وطني شامل يضم الجيش، والقوى السياسية، والمجتمع المدني، لمعالجة جذور الأزمة لا مظاهرها.
5. دعوة واشنطن وشركائها لاحترام الخصوصية التاريخية والاجتماعية للسودان، والنظر إليه كشريك في الاستقرار الإقليمي لا كموضوع للتجريب.
سادسًا: خاتمة
إنّ السودان، بتاريخ جيشه ومؤسساته، ليس بحاجة إلى إعادة تعريف من الخارج.
فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الداخل، عبر مشروع وطني جامع يحترم سيادة القانون ويعيد الثقة بين الدولة والمواطن.
أما الوصاية – مهما تلونت بمصطلحات “الإصلاح” أو “الدعم الفني” – فتبقى مرفوضة قانونًا وأخلاقيًا.
فالسودان، بشعبه وقواته المسلحة، قادر على النهوض من داخله، وصناعة مستقبلٍ يقوم على العدالة والسيادة والكرامة الوطنية.

هذه القراءة القانونية والدبلوماسية تأتي في وقتٍ دقيق من تاريخ السودان، لتؤكد أن الاستقرار لا يُفرض من الخارج، بل يصن بارادة وطنية صادقة تحفظ وحدة البلاد وتصون كرامة شعبها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى